الثلاثاء، 10 يناير 2012

أمريكا .. بعيني الرضا والسخط

حين يخبرنا العالم المرموق الدكتور هشام شرابي أنه اكتشف من حياته في أمريكا، الفارق في العلاقات الاجتماعية بين الأبوية السلطوية، والديمقراطية المتساوية، ويقول «ظهر لي (الآخر)، لا على شكل ذات فوقيَّة تسحقني، بل بصورة ذات حرة تعكس حريتي» ـ حين يقول هذا، فعن أي أمريكا يتحدث؟

لا أشك أنه فعلاً وجد الأمر كما وصف، لكننا نعلم أن الدكتور هشام ليس شخصاً عادياً. ليس عاملاً في (قراج) في (ديترويت)، ولا صاحب محل بقالة في (شيكاغو)، ولا حارسا ليليا في (نيويورك) ـ إنه من صفوة الصفوة.. أستاذ جليل، في جامعة هي من كبرى الجامعات في أمريكا.. ونحن لا ننكر الفضل لها، إن من إنجازاتها الباهرة، أنها أقامت دوراً للعلم تهيئ للدارس والباحث والأستاذ، فرصاً واسعة، كي ينمي مواهبه ويعبر عن ذاته وأفكاره، دون قيد أو شرط.

في تلك المناخات العلمية، نعم يجد الإنسان ذوات حرة تعكس حريته. إنما هل هذه كل أمريكا؟ لا أحسبني أحتاج أن أذكر أستاذنا الجليل، أن في حي (جورج تاون) في واشنطن - غير بعيد من الجامعة ذائعة الصيت - يصدم الزائر مرأى عشرات المواطنين أغلبهم من السود، يقفون أو يجلسون على أفاريز الطرقات، بلا هدف، وعلى وجوههم سيماء بؤس مقيم، ويأس بعيد الصور. ولا أظن أنني رأيت من ألوان الشقاء والهوان الإنساني، ما رأيته وأنا أشق حي (هارلم) في نيويورك.. لا يوجد في أي مدينة عربية، مهما بلغ بها الفقر، نظير ذلك البؤس.

بلى، إنها كذلك أيضاً، وهذا هو المحير في هذه الدولة العجيبة، الفقر الممض في (هارلم)، والمعمار الطريف في (مانهاتان)، وهما على مرمى حجر. الحدائق المونقة والساحات الواسعة في واشنطن، الاكتشافات العلمية المذهلة وملايين الأميين الذين لا يكتبون ولا يقرأون.. الرجال والنساء الشرفاء الذين يحبون الحرية والكرامة لأنفسهم وللآخرين، واللصوص والأراذل والمجرمون. عصابات الـ (كوكلس كلان) التي تعلق المشانق للسود، والمفكرون العاكفون على طرح الأسئلة النبيلة، المحلقون بين الكواكب، والغثاثات التي تمجُّها على العالم، وسائل الإعلام والترفيه من نيويورك وهوليوود. بلى، هذا الخليط المتناقض المحير هو كله أمريكا، وكأنها تلخص رحلة الإنسان عبر هذا الكوكب، بخيرها وشرها منذ بدء الخليقة. قامت على أنقاض أكبر عملية إبادة في التاريخ، وعلى أنبل المثل وأطيب المقاصد. مثل تمثال (المفكر) للنحات الفرنسي (رودان)، مثل رجل عملاق أقدامه مغروسة في الوحل ورأسه شامخ في السماء.

كل ذلك، ما كان يهمنا، أكثر مما تهمنا أحوال اليونان أوالبرازيل، لو لا أن أمريكا أصبحت الدولة العظمى، أصبحت (روما) هذا الزمان، تبسط ظلها على سكان المعمورة قاطبة. وتؤثر على مصائرهم، إن خيراً أو شراًَ. وقد جاء في الكتاب الرائع (الثقافة والإمبريالية) للعالم النابغة بروفيسور إدوارد سعيد:

«تفرض الولايات المتحدة هيمنتها على العالم، بأنها هي التي تحدد قواعد النمو الاقتصادي ومدى القدرة العسكرية، في طول هذا الكوكب وعرضه (....) كذلك كانت روما في عهدها الأول، كما قال (ششرو).. الولايات المتحدة التي جاد عليها الحظ بثروات لا مثيل لها، وتاريخ غير عادي تقف اليوم (فوق) النظام الدولي وليست خاضعة له. وكونها الأقوى بين الدول، فهي متحفزة على الدوام لفرض مشيئتها على الدول (كافة).

وتجدر الإشارة هنا، أن هذا العالِم الفذ - وهو أيضا فلسطيني الأصل - قد سار المراحل نفسها التي قطعها بروفيسور هشام شرابي في رحلته إلى أمريكا، وانتهى به المطاف، أنه صار هو الآخر أستاذاً مرموقاً في جامعة أمريكية عريقة.. صار أستاذ الأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة (كولمبيا) في نيويورك.. ورغم ذلك فقد وصل إلى نتائج مختلفة عن النتائج التي وصل إليها بروفيسور هشام شرابي.

هذا المفكر الضخم، أحدث من التأثير في أمريكا والعالم، ما لم يستطعه إلاَّ القليلون، وكتابه (الاستشراق) صنع دوياً ما يزال يتردد إلى اليوم.. وكتابه هذا (الثقافة والإمبريالية) ـ وهو آخر كتبه ـ وصفه كاتب إنجليزي بأنه (مساهمة هامة من كاتب هو من أعظم النقاد في هذا العصر). هذا ويقول الفيلسوف الإنجليزي الكبير (آر. جي كلنقود ـ R.G.Co llinewoob)، مؤكداً رأياً مماثلاً للفيلسوف الإيطالي الحجة (قيد ردريجو):

(الإنسان الحر ـ أي الإنسان الذكي القائم بذاته ـ هو وحده الذي يعترف بحق الآخرين في الحرية (....) الفرد لا يحقق اكتماله الروحي، بواسطة السيطرة على الآخرين وإخضاعهم لإرادته ، بل، بواسطة تحرير الذات من الانفعالات السطحية، والقيود الخارجية. لكن هذا لا يعني أن الحرية هي إباحية وخضوع للهوى والنزوات، إذ أن ذلك لا يكون إلا على حساب حقوق الآخرين، هذا يجب ألا يسمح به، لأنه يلغي الاعتراف المتبادل بالحرية، ويؤدي إلى فساد الحياة العامة، حياة المجتمع ككل.. على العكس من ذلك، الإنسان الحر حقيقة لا يتبع أي نمط من السلوك اعتباطاً، فهذا يعني أنه إنسان عابث خائر العزيمة.. الإنسان الحر حقيقة هو الذي يختار السلوك الذي يفرضه عليه مصيره الأخلاقي المحتوم. الحرية هي السلوك الذي لا يتعارض مع الواجب). نعم، نحن نفهم هذا الكلام جيداً، فهو موجود عندنا في تراثنا العظيم، أفصح وأنصع بياناً. وقد قال رسلونا الأمين صلى الله عليه وسلم: (إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق).. وبالتأكيد ليس ذلك هو التراث (الأبوي البطركي) الذي يهيب بنا صديقنا العالِم المرموق، أن نثور عليه.

إن (الاعتراف المتبادل بالحرية) ينطبق بطبيعة الحال، على الدول كما ينطبق على الأفراد.

فإلى أي حد ينطبق الوصف على هذه الدولة الطريفة؟وإلى أي حدٍ أن المجتمعات العربية والإسلامية مجتمعات (بطركية) بالمعنى السيئ للكلمة وهل أمريكا ليست مجتمعاً بطركياً؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق